-->
مرحبا بكم, نشكركم على زيارة موقعنا, نتمنى أن تكون قد حصلت على ما كنت تبحث عنه، ولا تنسى الإنضمام الى متابعي المدونة الأوفياء لتكون أول من يعرف بجديد مواضيعنا, دمتم في آمان الله .

جمالية البناء الفني في مجموعة "أقواس" (الفصل الثاني)

الفصل الثاني: جمالية البناء الفني في مجموعة "أقواس"

بحث حول جمالية البناء الفني في مجموعة "أقواس"

أ‌- جمالية البناء الفني في القصة القصيرة جدا

1- مفهوم الجمالية :

الجمالية مصطلح المعاصرة التي تناولها الدارسون والنقاد بكثرة مثال ذلك لأنها من المخلفات والآثار للحداثة وقد اختلفت الآراء والمفاهيم حولها ولعل ذلك يعود إلى عدة مبررات منها :
- اختلاف توجهات الدارسين ومشاريعهم.
- إختلاف الفرضيات الفكرية المنتظرة لهذه المسألة.
- تعدد زوايا النظر لعدة المسألة ومراد كل دارس منها.
هذا ما جعل هذاالمصطلح يقع في مطبات الخلخلة المفاهيمية كغيره من المفاهيم والمصطلحات التي وفدت إلينا من الغرب وفيما يلي سنحاول عرض هذه المفاهيم المتعلقة بهذا المصطلح، ونبدأ بجزء متعلق بالجانب الغربي وكيف نظر إليها النقاد الغربيون ونورد أمثلة لذلك بما يلي:
يقول أدورنو:"يعد العمل الفني انعكاسا ماديا للواقع الإجتماعي السائد، ولا يعبر عن طبقة ما، لأنه تعبير عن الكون الإنساني ملكة الفن هي التخيل ولذلك لايعبر الإبداع عن طبقة في المجتمع وإلا تخلى الفن عن التخيل "([19]).
يتوخى أدورنو إنشاء حداثة استطبقية دون سقوط العقل في براثن الميثولوجيا وتوطئة مع همجية الثقافة الحديثة التي يسميها بالهمجية المنمقة.
يقول كانط: "العبقرية هي حالة الفطرة التي عبرها تقدم الطبيعة قواعد للفن"([20])
" الفن الجميل هو عبقرية "
إن الإبداع صورة بديعة تسعى لمحو المتاهات البشرية وفعل يواجه القبح الطبيعي اليومي وهو وسيلة كذلك للمقاومة ضد اختفاء الجمال.
الجماليات تخاطب الذات والموضوع والعالم و الطبيعة، لكن في حضور الفن تصبح العلاقة مغايرة، فالطبيعة تكون جميلة عندما يكون لها مظهر الفن ولا يسمى الفن جميلا إلا إذا كنا نعيه كفن حسب كانط.
أما عن تعريف الجمالية عند العرب فكانت بالطريقة التالية:
لقد انتصر عبد القاهر الجرجاني (471هـ) لمفهوم الجمال في الشكل و المعنى في نظريته المعروفة بالنظم كما في قوله:
"إعلموا أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو،وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها"
ثم قال: "وإذا قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لاتجد لها ازدياد بعدها ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسنا، ومن حيث هي على الإطلاق ولكن تعرض بسبب من المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم يحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض"([21]).
لقد أصر الجرجاني على الجمال في الشكل و المضمون كالعديد من النقاد والبلاغيين والفلاسفة من العرب.
"الجمال عند ابن سيدة هو الحسن يكون في الفعل والخلق معا ...وقد جمل الرجل جمالا، فهو جميل، وجمال، فإذا قلنا (جمله وتجمل، زينه وتزين)فقد دخل في التجمل و هو التزين ...
أي أنه ليس جميلا بطبعه أو أنه ناقص الجمال، فتكلف الجمال ليصبح جميلا ([22]).

2- التعريف بالمبدعة سمية البوغافرية:

سمية البوغافرية، قاصة وروائية مغربية، تنحدر من منطقة بوغافر بإقليم الناضور.
شهادة البكالوريا، العلوم التجريبية من ثانوية عبد الكريم الحطابي بالناضور 1989م إجازة في الحقوق، من جامعة صفاء، بالجمهورية اليمنية 1995.
عضو اتحاد الكتاب العرب.

صدرلها:

أجنحة صغيرة : مجموعة قصصية قصيرة عن دار سندباد بالقاهرة 2009م .
رقص على الجمر: مجموعة قصصية قصيرة عندار الينابيع بدمشق2010م.
زليخة: رواية عن دار سندباد بالقاهرة 2011م.
أقواس:مجموعة قصصية قصيرة عن دار التكوين بدمشق 2012م
نهر الصبايا :رواية إصدار دار الوطن المغربية 2014م
قمر الريف:رواية، إصدار دار الثقافة المغربية 2014م
علاء الدين الحاسوب السحري: رواية للطفال : إصدار دار أبي رقراق بدعم من وزارة الثقافة المغربية.
الإمبراطور شمسونو الزهرة العجيبة رواية للأطفال إصدار دار أبي رقراق بدعم من وزارة الثقافة المغربية.
تنشر أعمالها في كثير من المواقع الإلكترونية : وفي الجرائد والمجلات الورقية داخل المغرب وخارجه.
أنجزت عدة بحوت جامعية في أعمالها القصصية والروائية
تناول أعمالها بالدراسة والتحليل كثير من النقاد داخل المغرب وخارجه
تم تكريمها في مهرجان الناظور للقصة القصيرة جدا في دورته الثانية دورة سمية البوغافرية عام 2013م.
لها قيد الطبع :
صرخة الفجر : مجموعة قصصية قصيرة
عاشقة اللبن: رواية([23])

أ‌- البناء الفني في مجموعة "أقواس"

1- أنواع البدايات في القصة القصيرة جدا

تستعمل القصة القصيرة جدا، كما هي عند الكاتبة المغربية سمية البرغافرية، مجموعة في أشكال البدايات، حيث تنوع الكاتبة بداياتها الإستهلاكية، وتغير باستمرار وضعياتها الإستفتاحية من قصة إلى أخرى، وقد تشترك القصة القصيرة جدا في هذه البدايات، بشكل من الأشكال مع القصة القصيرة و الرواية، مادامت الصياغة السردية في الإستفتاح متشابهة إلى حد كبير بين هذه الأجناس الأدبية الثلاثة ويمكن الحديث عن مجموعة من البدايات التي تستند لإليها القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية ويمكن حصرها في الأنواع التالية:

أ‌- البداية الحدثية:

تتحول بعض القصص القصيرة جدا في أضمومة سمية بوغافرية إلى بدايات حدثية رئيسية، تتضمن عقدا متوترة لهذه القصص، فتبنى عليها الأحداث والحبكة السردية إيجازا أوإسهابا، كما يبدو ذلك جليا في قصة (خطأ كبير):
"سقط الكوب من يده فتهشم...
نهره أبوه بعصبية :احترس يا ولد ...أخطاؤك تجاوزت الحد المقبول...
ستقودك لا محالة إلى الهلاك...
ألقى ابنه نظرة معبرة على ساق أبيه المعلقة وقال له:
اطمئن يا أبي ليست أخطاء الصغار من تقود إلى الهلاك...
وخرج تاركا أباه يخمن في كلام ابنه،وفي خطئه الذي غيبه عن وعيه شهرا وكاد يؤدي بحياته.([24])
تتخذ هذه القصة بعدا قيميا وأخلاقيا، وتشيرإلى جسامة أخطاء الكبار مقارنة بأخطاء الصغار. ومن ثم، فسقوط الكأس من يد الإبن الصغير يعد عقدة واضطرابا في مسار الحبكة السردية وبالتالي فهي وضعية اضطراب وإساءة، تعقبها وضعية اللوم والعتاب لتنتهي بوضعية الحكمة ورد الفعل.

ب‌- البداية الفضائية :

تشغل سمية البوغافرية في مجموعة من قصصها القصيرة جدا ما يسمى بالبداية الفضائية أو الظرفية التي تتحدد في الزمان و المكان على حد سواء. وتتضح البداية الزمانية في قصتها (بسمة حالمة)
التي استهلتها الكاتبة بمؤشر زماني "حل عام 2012م" وإليكم القصة كاملة:
"حل عام 2012لا يحمل على جناحيه جديدا :
زلازل،
براكين،
حروب،
رائحة الكوارث تركم الأنوف من بعيد،
زفرت الصدور لوعة خيبتها،
وانغلقت على حزنها
بينما،
كانت الأرض تحتفل بمولودها المليار السابع،
وتفك خيوط بسمته الحالمة([25])
وقد تكون في البداية الظرفية: مكانية، كما في قصة (اقرأ) التي تحدد فضاء مكانيا للحدث الرئيس ألا وهو فضاء المدرسة:
"مذ دخل المدرسة وهو يسمع :اقرأ
وحيث التفت لا يجد أحدا يقرأ
فشعر وكأن "اقرأ" قدره وحده
فسأل معلمه
وإذا لم أقرأ، يا أستاذ، ماذا سيحدث؟
سيجمد عقلك ...إن فتحت فمك ستموء أو تثغو أو تزأر...
فقال الطفل:
الآن ،فهمت لماذا أختي الصغيرة تموء، وأمي تثغو، وأبي يزأر، والكلاب في الشارع تنبح... ([26])
ويعني هذا كله أن البداية الظرفية هي التي ترتكز على الزمان والمكان باعتبارها خلفية إطارية محددة للشخوص والأحداث الواردة في القصة القصيرة جدا لايمكن بأي حال من الأحوال التخلص من هذه البداية التقليدية التي انتشرت كثيرا في الرواية والسرودالواقعية أوالرومانسية لأنها الإطار الفضائي العام للقصة ونطاقها المجالي الذي تتحرك فيه الشخوص وترتبط بها الحبكة السردية بمكوناتها الخمس (البداية، والعقدة، والصراع، والحل، والنهاية).

ج- البداية السردية:

من الطبيعي أن تكون بدايات كثيرة من القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية سردية مادامت هذه القصص تتكئ على عمليتي التحبيك و التخطيب على المستوى السردي، كما يتجلى ذلك بوضوح في قصة (وشم).
"كان نادرا ما يحضر اللحم على موائد الأفراح.
وخلافا للسائد في تلك القرية النائية، حضر في حفل الزفاف الخمر وبعده أطباق اللحم
رأى الطفل ذو ثمانية أعوام الطبق فهجره اللعب، والرقص، والشغب، والطفولة أيضا.
انقض على قطعة لحم كانت بالقرب من عمه الذي يلعق عظما وعيناه شبه مغمضتين
إلا أنه رغم الخمر الذي عبث بجوارحه، فقد أحسن تأريخ أطباق اللحم على جبهة الصبي بالعظم الذي كان في يده... ([27])
ويتضح مما سبق أن البداية السردية هي التي ترتكز على إيراد الأحداث تمهيدا وتعقيدا وانفراجا وتمطيطا وتسريدا.

د- البداية الوصفية :

تستهل بعض القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية ببداية وصفية من أجل وصف الشخصية، أوالأمكنة، أو الأشياء، أو الوسائل، كما يبدو ذلك جليا في قصة (هزيم الرعد) التي تصف فيها الساردة السياسي المناضل والثوري الذي تلجئه الرعود إلى النوم تحت السرير.
"صوته حاد، نافذ... يخترق الآذان من مسافات بعيدة ... يتقدم دائما صفوف المتظاهرين... يهتف بالنصر العربي وبنصرة الحق ... يتسابق إلى الميكروفونات وإلى عدسات الكاميرات لإيصال كلمته إلى أقصى الحدود... حيث حل ضخه حماسا، ونفخا في الهمم، ولعنا وسبا للجبناء والعملاء أحيانا، يعري صدره العريض للبرد والرياح ... يلطمه بقبضاته القوية وهو يزمجر بصوته الرعدي:
- هذا الصدر أولى أن يخترقه الرصاص أو أدكه بيدي ان استساغ هواء الذل والمهانة ورضي بحياة الجبن.
استيقظت أسرته، ولا أثر له في البيت. صرخت زوجته، وولولت على زوجها المختطف في فراشه... اجتمع الجيران والأقارب يبكونه مستنكرين ما حدث .. كانت خادمه، في هذه الأثناء، قد دلقت عليه سطل ماء ممزوج بمواد التنظيف، تكنسه من تحت سريره الذي أوى إليه من شدة رعود الليلة." ([28])
و يلاحظ أن الكاتبة قد أسبغت على شخصية الثوري المناضل مجموعة من الأوصاف الخارجية التي تبين قوتها وشجاعتها و رباطة جأشها. لكن المفارقة أن هذا البطل الثوري يختفي تحت السرير؛ لأنه يخاف رعود الطبيعة وبروقها.

هـ - البداية التشكيلية :

تستهل بعض قصص سمية البوغافرية ببداية تشكيلية، أو لوحات فنية جميلة، قوامها الأشكال والألوان والمقاصد الشاعرية والرمزية والذهنية، كما يبدو ذلك جليا في قصة (لا تعرف الغضب) التي تبدو كأنها لوحة انطباعية استعارية موحية، تعبر عن نفسية الرائي المشرقة، وتفاؤله العارم في الحياة، وانتشائه بجمال الشمس بابتسامتها اليانعة.
"عندما تأتي الشمس لتلم أشعتها وتلبسها زي الوقار، يكون جسدها الأخضر البديع لوحة جماعية... استوعبت كل الألوان والأدران ... رئتاها تكدستا بأدخنة الشواء ظلت طوال النهار تضبب فضاءها...
في الصباح، تتعطر بعطور الربيع، تحضن إليها قرص الشمس، تسرب أشعتها بين فرجات أصابعها الخضراء إلى وفود حجاجها بذات حينتها المعهودة..." ([29])
ونجد هذه البداية نفسها في قصة (بكماء):
"تمعن لوحة فنية،
تفيض أضواء وألوان،
وأنهارا تجري بسحر الكلام.
فاشترى ريشة وألوانا،
وضرب بها على البياض،
فتفجرت ألوانا وأضواء،
لكنها لم تقل له شيئا"([30]).
ويعني هذا أن البداية التشكيلية هي التي تستثمر معطيات فن التشكيل، بكل آلياته التعبيرية، لرصد ما هو ذاتي، وفني، وجمالي، وموضوعي.

و- البداية الحلمية :

نعني بالبداية الحلمية تلك البداية التي تستهل بملفوظ حلمي يحول الحقيقة إلى تخييل، أوفانطاستيك، كما يظهر ذلك بينا في قصة (عشق قديم) التي تصور لنا أحلاما رومانسية متفسخة بسبب الشيخوخة والعمر المترهل:
"عصفت بهما رياح الأحلام.
ألقت كل واحد منهما في مجرة مستقلة يعانق قمره،
وبضعة نجوم صغيرة يراقصها.
كلما مر طيف أحدهما بالآخر.
لاقتهما الصدفة ،وهما هيكلان تصفر فيهما رياح الشيخوخة.
تبادلا ابتسامة بيضاء وانصرف كل واحد في طريقه.
يتعكز على عكازة،وعلى لوحات فنية.
كانا بطليها ذات عشق قديم"([31])
ويعني هذا أن البداية الحلمية هي تلك البداية التي يحضر فيها الحلم بشكل بارز ولافت للإنتباه لتصبح فيما بعد إطارا فنيا و جماليا للأحداث والشخوص والأفضية السردية.

ز- البداية الموحية:

تعتمد البداية الموحية على مجموعة من الإيحاءات الرمزية والذهنية، كما يتبين ذلك جليا في قصة (نجمة) التي تعبر عن أفول نجمة:
"ذات ذبول، هدهد القمر ظهرها وهمس في أذنها بأنه قد حان الأوان لتفرغ المكان لغيرها.
بكت وأصرت على البقاء في حضنه،
سقطت ذات غفوة،
تلقفتها النجوم ورعتها إلى أن أغمضت عينيها.
ولازالت تحرسها وتحوم حولها،
وتروي قبرها بدموعها الفضية ." ([32])
وتظهر كذلك في قصة "الديمقراطية" التي تعتمد التشخيص سبيلا للترميز والإيحاء دلالة على غياب الديمقراطية في واقعنا السياسي العربي:
"كانت منكمشة على نفسها،
تنتحب بجانب قبرها،
ورائحة الدم والحرائق تخنق نفسها.
داعبها نسيم ربيع منعش،
سرى في رئتيها نسمة الحياةوالإنبعاث.
فطارت لتتفقد حدائقها.
وجدت كل زهورها أكماما منفوخة.
بعضها تخنق الضحكة ، وبعضها الآخر تخنق الصرخة
فانكمشت في عشها أعلى غصن الشجرة
تنتظر غدها"([33])
ويعني هذا أن البداية الموحية هي التي تحمل في طياتها علامات عدة مفتوحة على عوالم الذات والموضوع.

ح- البداية الساخرة:

تتسم بدايات بعض القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية بخاصية السخرية والفكاهة والتهكم والتندر، كما يتجسد ذلك واضحا في قصة (فلسطين) التي تتهكم فيها الساردة من الذين باعوا وطنهم مقابل فلس رخيص:
"قبض الـ"فلسـ"مقابل الـ"طين"
وقبل أن ينام مزق العقود القديمة وأوصى ورثته :
إياكم أن تفرطوا في شبر من فلسطين"([34])
ويعني هذا أن البداية الساخرة هي تلك البداية التي تثير المتلقي ذهنيا ووجدانيا وحركيا ،بلغةالإبتسامة والطرافة والضحك .وغالبا ما تنبني تلك اللغة المثيرة على التهجين والباروديا والمحاكاة الساخرة .

ط – البداية الفانطاستيكية :

توظف سمية البوغافرية مجموعة من القصص القصيرة جدا ذات الطابع الفانطاستيكي القائم على التحول، كما يبدو ذلك جليا في قصة (حقنة الأنسولين ) التي تصور صراع المريض مع الداء العضال، حيث يتحول هذا المريض إلى خنفساء من شدة الخوف والرعب والهلع:
"حينما يرى الحقنة في يد ممرضته،
يستحيل خنفسا صغيرا،
كأنها تحمل إليه صاروخا
أحيانا، تفرمنه صرخة
تزعزع سكينة أهله وجيرانه،
سرى الأنسولين في أنسجته،
فمسح على لحيته ورفع يده ملوحا لوالديه الشيخين
وداعا ...أنا ذاهب للجهاد." ([35])
ويعني هذا أن البداية الفانطاستيكية هي تلك البداية التي تنبني على التحول و الإمتساخ والتقلبات الحلمية والرؤيوية.
ي- البداية الحوارية أو المشهدية:
هناك نوع آخر من البداية تستهل بها قصص سمية البوغافرية، ويمكن تسميتها بالبداية الحوارية أو المشهدية أو القولية، وتحيلنا هذه البداية على جنس المسرح والنصوص الحوارية والخطابات الإستفسارية المبنية على السؤال والجواب، كما يتجسد ذلك بوضوح في قصة (تحد).
"قيل للفراشة: إذا انتزعت منك جناحاك وألوانك لن تكوني فراشة، ابتسمت بسخرية،
وتعرت من ألوانها و من جناحيها،
اعتلت وردة بهيجة،
ومضت ترقص على بتلاتها بكل عنفوان الفراشة.."
وإذا كانت البداية السردية الحكائية مرتبطة بالسارد أو الراوي، فإن البداية الحوارية مرتبطة بشكل خاص بالشخصيات المتحاورة.

ك – البداية التقريرية :

تتخذ بعض قصص سمية البوغافرية طابعا تقريريا، في شكل جمل مثبتة وتأكيدية تعيينا وإخبارا وتقريرا. بمعنى أن الجمل التقريرية جمل حرفية مباشرة من حيث دلالاتها المقصدية، كما يظهر ذلك بينا في قصة (قضبان داخلية) التي تعبر عن الحزن و اليأس في التحرر:
"كسرت كل قيودها.
فتكت بآخر خيط يشدها إلى قفصها.
وقفت تحدق في الفضاء الرحب المترامي الأبعاد.
تحرك أجنحتها وتتأهب للإقلاع.
هزتها قشعريرة،
فمناقير صغيرة حادة اخترقت مسامات جلدها.
كسرت أجنحتها حتى آخر ضلع، وضربت عليها شباكا من حديد "([36])
وهكذا فالبداية التقريرية هي بداية حرفية قائمة على الجمل الخبرية، سواءا أكانت ابتدائية أم طلبية أم انكارية. ومن المعروف أن الجملة التقريرية المبنية على التعيين والمباشرة هي نقيض الجملة الإنشائية المبنية على تنويع الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية.

2- أنواع الجسد السردي:

يمكن القول: تتضمن مجموعة (أقواس) لسمية البوغافرية أنواعا مختلفة من أجساد القصة القصيرة جدا وهي:

أ‌- الجسد القصصي القصير:

لا يتعدى بعض الجمل القليلة جدا كما في قصة (همس القمر):
"تمر السنون، وهي كما عهد الناس بها منذ قرون ...
مشرقة، بشوشة، مبتسمة أبدا...
ولا يدري أحد بما يهمس لها القمر كل ليلة ...([37])
يلاحظ أن جسد هذه القصة القصيرة جدا لا يتجاوز بعض الجمل ليس إلا .

ب‌- الجسد القصصي المتوسط:

يتخذ هذا الجسد خمسة أسطر أو نصف الصفحة على أكبر تقدير كما في قصة (لا تعرف الغضب)
"عندما تأتي الشمس لتلم أشعتها وتلبسها زي الوقار، يكون جسدها الأخضر البديع لوحة جماعية... استوعبت كل الألوان والأدران...رئتاها تكدستا بأدخنة الشواء ظلت طوال النهار تضبب فضاءها...
في الصباح، تتعكر بعطور الربيع، تحضن إليها قرص الشمس، تسرب أشعتها بين فرجات أصابعها الخضراء إلى وفود حجابها بذات حنيتها المعهودة...([38])
قد يكون جسد القصة القصيرة جدا متوسطا، يعتمد على بعض الجمل المنتقاة بدقة لتشكيل عقدة النص وحبكتها القصصية بناء وتشكيلا وتخطيبا.

ج‌- الجسد القصصي الطويل :

يتعدى هذا الجسد الصفحة، أو يقترب في صياغته الحكائية من نفس الأقصوصة، أو من نفس القصة القصيرة، أو من نفس الرواية، أو من نفس المسرحية أو الشعر، كما يتضح ذلك جليا جليا في قصة (عروس الهنا):
"العروس بنت العشرين. تزوجت برجل في الستين، له من زوجته الأولى المتوفاة خمسة أطفال، أصغرهم لم يكمل بعد الشهر الأول ...
في ليلة زفافها حمل إليها ابنته الرضيعة وقاد وراءه أطفاله الآخرين...
أخذ الورد الأحمر من يدها النائمة وألقاه على المنضدة بجانبه، ووضغ صغيرته في حجرها قائلا لها بصوت حاد وهو يشير لها إلى أولاده:
هؤلاء أمانة في يديك ...إن فرطت فيهم غضبت عليك إلى يوم الدين.... ولن تنقذك من لهيب غضبي ملائكة الأرض والسماء إن اجتمعت... ثم مضى إلى فراشه في غرفة مجاورة. وبعد قليل نادى عليها بصوت مبحوح:فاطمة...فاطمة.
مضت فاطمة إليه وهي تتعثر في فستانها الأبيض الطويل ...وقفت بجانبه خجولة، ورأسها يحاذي صدرها كأنه مبتور من الخلف فأشار إليها بصوت جاف:
هاتي من الثلاجة "التقطيرة" وضعي قطرتين في عيني اليمنى وقطرة في عيني اليسرى، ومسدي ظهري ولا تنسي أن تكرري هذا كل يوم قبل النوم.
خلعت العروس فستانها، تأبطت محفظتها الصغيرة، فعادت إليه تسوق وراءها أولاده الصغار، وتحضن إليها طفلته الصغيرة، وضعتها في حجره، وراحت تنصرف، فنهرها غاضبا:
إلى أين أنت ذاهبة؟
ردت عليه وهي تخنق دموعها، وتكز على أسنانها:
سأذهب لأحضر لك تقطيرة البصيرة يا ....([39])
يلاحظ أن جسد هذه القصة القصيرة جدا طويل بسبب تفصيل الأحداث وتمطيطها عبر إيقاع القصيصة نموا وإطرادا واسترسالا.
ويمكن القول أيضا أن هناك جسدا قصصيا مقتضبا ومختزلا، وجسدا قصصيا متناميا ومتصاعدا.

د- الجسد الوصفي:

يظهر الجسد الوصفي في قصة (عرس) حيث تصف الساردة اصطفاف تلاميذ المدرسة، وهم يستعدون لإستقبال الموكب الرسمي بحفاوة وفرح وسعادة وانتشاء:
"أسابيع مضت، ولا شيء في جدول الأعمال عدا الأناشيد والأهازيج أضحت مدرستنا كما العروس ستزف قريبا إلى عريسها.... اليافطات والرايات في كل مكان ... يد الترميم والتطهير والتلوين سرت على آخر بقعة فيها...
في أجمل الحلل، مضينا لإستقبال العريس ...اصطففنا أمام بوابة المدرسة خلف معلمينا ومديرنا نهلل ونطبل ...وكلما اقترب الموكب بصخبه خفقت قلوبنا فرحا، واحتدت حناجرنا بالأناشيد وسخنت الأيادي المعطرة لتستعد للتبرك ببركة العريس.
مضى الموكب من الشارع كالبرق الخاطف المصحوب بالرعد القاصف، أمطر المدير والمعلمين بالغبار المتطاير ... فغضبوا ودفعوا "بالقطعان" إلى الى الحظائر، وهم يعضون أيديهم المعطرة التي لم تلامس يد عامل مدينتنا النائمة.([40])
يبدو أن هذه القصيصة مليئة بالأوصاف والنعوت والأحوال التي تشكل عالم هذه القصة وفضاءاتها السردية.

هـ - الجسد القصصي الحواري :

يظهر الجسد الحواري في قصة (تشنج) التي تعبر عن تقاعس الأبناء والآباء على الجهاد:
"بعجلة مفرطة، وإصرار أشد من السابق قال لإبنه الشاب وعيناه على شاشة التلفاز:
بدون الجهاد، ودحض العدو في عقر داره، سنظل نتوارث الذل والمهانة وستظل هذه المجازر الوحشية تستفزنا،
رد عليه ابنه الشاب:
هذا الإرث الممقوت ورثناه عنكم ستجدوننا وراءكم.
لكن حالة أبيه المفاجئة، والغامضة خنقت هذا الكلام في حلقه فظل يحدق إليه محتارا من أمره، وأبوه يزداد تشنجا .... يعتصر نفسه على الكرسي، يحمر، يخنق نفسه ويكاد ينفجر ... ثم قام مقوسا منكمشا على نفسه، يجر خطوه خارجا؛ كأن قذيفة في حجره. إن استقام واعتدل في مشيته ستسقط منه وتنفجر...
تبعه ابنه حذرا هلعا مما يخفيه، رآه يدخل دورة المياه المجاورة لغرفته، عاد إلى مكتبه يتنازعه الضحك والبكاء ...وعلى أذنيه تتناوب نوعان من المتفجرات ..."([41])
يتشكل هذا النص القصصي القصير جدا من توالي الحوارات النصية والدرامية لتشكيل عالم القصيصة وأجوائها السردية .
و- الجسد القصصي الميتاسردي:
يتجلى الجسد السردي الميتاسردي في قصة (قصة هزيلة) التي تتهكم فيها الشخصية الرئيسية من كتاب القصة المتطفلين.
"أمضى ساعات يتلوى في فراشه، يستجدي عفوة تريحه من ضجيج رأسه ولما لا جدوى من استجدائها، قام وجلس إلى حاسوبه.
نقر على موقع أدبي ...فتح قصة لقاص يتخاطف الرواد على حرفه...
قرأ العنوان فنسيه بعد سطور ثلاثة، أعاد قراءته بعينين منطفئتين عله يشحذ الذاكرة ويمسك بالمفتاح للدخول إلى صلب القصة التي يتهجى كلما تهادون أن يفقه معناها، كأنها كتبت بلغة غير لغته...
أطفأ الحاسوب وعاد إلى سريره وهو يلعن المتطفلين على الكتابة، وكل المواقع الأدبية..."([42])
يحيل هذا الجسد على عوالم الكتابة في مختلف تشكلاتها الفنية والجمالية والأدبية وكيفية بناء الأحداث القصصية والسردية.
ز- الجسد السردي أو الحدثي :
يتجلى الجسد السردي أو الحدثي في قصة (مسرحية هزيلة) التي يتهكم فيها البطل من المسرحية والمسرحيين قاطبة:
"منذ وفاة زوجته، وهو معتكف في محراب أحزانه.
قرر ذات يوم مشرق، وبدفع من أقربائه، أن يخلع معطفه الأسود دخل المسرح المجاور لبيته، انزوى في زاوية أقصى القاعة، يقلب صفحات ألبوم قديم ...
قطع عليه شريط ذكرياته، تصفيقات الجمهور، فرفع رأسه وصبغ الممثلين من خلف نظارته السوداء، بنظرات منطفئة بدواله مثل علب من قصدير يحركها أصبع شيخ هرم بخيوط غير مرئية، فأصم أذنيه عن "الرنين" الذي يثقب طبلتي أذنيه اللتين ألفتا الإنصات إلى ضجيجه الداخلي الهادئ...
فقام خارجا وهو يلعن المسرحية وهراء المسرحيين..."([43])
وتندرج مجموعة من القصص القصيرة جدا ضمن الجسد القصصي المضمر، كما يتبين ذلك جليا في قصة(منفضلة....) التي تبين علاقة مغرم بأنثى.
استعصى ترويضها إلى أن نكل بها عشيقها.
"ظل سنوات يراودها،
وسنوات أخرى يروضها،
فصلها أخيرا، على منواله،
ثم
ألبسها القالب الذي يرتضيه
ثم
تنهد وأخذ عقب سجارته....يطفؤها في عينيها."([44])
تحيلنا الجسد الحدثي على مجمل الأحداث التي يتشكل منها القصصي القصير بناءا وتعقيدا وتمطيطا وذروة.

ح‌- الجسد الشاعري:

يبدو الجسد القصصي الشاعري جليا في قصة (انحناءة) التي تعبر عن انتصار الحب والخير على الحقد والكراهية:
"سلخ لحمي،
سلق عرضي،
زرع الشوك في طريقي،
ثم
توقف في الأمام يسحب القوس ليجهز علي،
جمعت الأشواك من طريقه وطريقي،
وزرعتها ورودا،
عطرت سماءه سمائي بطيب روحي،
فمضيت إليه أرشقه ببسماتي ،
ألقى قوسه ورماحه،
وانحنى تقديرا لي ولظلي في غيابي ."([45])
تتراكم الأسطر السردية في نص قصصي شاعري لخلق أجواء تتجاوز نطاق الحس والعقل إلى عوالم أكثر سحرية وشاعرية.
ط – الجسد السردي الفانطاستيكي :
يقوم الجسد السردي الفانطاستيكي على التحول والتغريب والتعجيب، والإنتقال من عالم الألفة إلى عالم الغرابة كما في قصة (نهر الدم):
"التفت يمينا ويسارا،
يبحث عن منبعه ومصبه،
فرأى ظلا ضخما يحوم حوله راقصا،
وفي يده عصا يشير بها إلى تفجير أنهار أخرى،
تألفت الأنهار وتبخرت
احتوتها غيمة
فهطلت قنابل على رؤوس الظلال ."([46])
تستند هذه القصيصة إلى آلية التحول التي تتحكم في عناصر الطبيعة خلقا وإبداعا وخصوبة.
هذه هي بعض أنواع الجسد القصصي في أضمومة (أقواس) سمية البوغافرية، وهي مبنية على مبدأ التنوع والإنتقاء والإختيار.

3- أنواع العقدة :

نعني بالعقدة الوضعية السردية الأساسية القائمة على التأزم والصراع والإضطراب والتوتر الدرامي، ويمكن تقسيم هذه الوضعية إلى الأنواع التالية:
أ‌- العقدة المقتضبة: نعني بالعقدة المقتضبة تلك العقدة التي تتسم بالتكثيف والإختصاروالإقتضاب والإيجاز كما وكيفا كما يتضح ذلك جليا في قصة (همس القمر).
"تمر السنون، وهي كما عهد الناس بها منذ قرون...
مشرقة، بشوشة، مبتسمة أبدا..
ولا يدري أحد بما يهمس لها القمر كل ليلة ..."([47])
ويلاحظ أن هذه العقدة موجزة ومكثفة في شكل أحداث مركزة وموجزة ومختزلة.
ب‌- العقدة المضمرة: تخلو بعض القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية من العقدة المألوفة التي تظهر في شكل أزمة، أو مشكلة، أو وضعية صعبة بل هذه العقدة لايمكن استجلاؤها إلا بالتأويل والتأمل والفحص والإختبار، لأن هذه العقدة غير واضحة بشكل جلي، بل هي مختفية ومضمرة وتحضر في القصة تضمينا وإيحاءا وتلويحا وإشارة كما في قصة (منفضة..):
"ظل سنوات يراودها،
وسنوات أخرى يروضها،
فصلها أخيرا على منواله،
ثم
ألبسها القالب الذي يرتضيه
ثم
تنهد وأخذ عقب سيجارته يطفؤها في عينيها "([48])
من الصعب بمكان استجلاء العقدة في هذه القصة القصيرة جدا، إلا إذا مارسنا فعل القراءة الجيدة، وفعل التأويل المثمر لنستكشف تلميحا وتلويحا بأن دلال المعشوقة هي العقدة المشكلة لحبكة هذه القصة القصيرة جدا.
ج- العقدة المفصلة :
نعني بالعقدة المفصلة تلك العقدة التي نجدها بشكل عاد في القصة والأقصوصة، قد فصلت ضمن حبكة سردية لها بداية ونهاية، كما يبدو ذلك جليا في قصة (بكاء):
"تبكي بحرقة،
السماء تمطر بغزارة،
سألوها عن سبب بكائها،
فلم لاتجب،
اكتفت بالإشارة إلى وردة مدهوسة،
تجرفها مياه الأمطار،
كانت قبل قليل في عرشها،
تغازل الشمس وقوس قزح..."([49])
و يعني هذا أن العقدة المفصلة تشبه العقدة التي نجدها في الأقصوصة والقصة القصيرة، وقد استكملت مكوناتها السردية تحبيكا وتسريدا وتخطيبا.
د‌- العقدة الممتدة :
نعني بالعقدة الممتدة في القصة القصيرة جدا تلك العقدة التي لا تستكمل مقوماتها الفنية والجمالية إلا بامتدادها داخل الرقعة النصية كما في قصة (أصابع من نار):
"أحرقت أصابعه لمرات عدة،
وعى أخيرا، أن الشقاوة تخمد بالنار،
فأغلق قبضتي يديه،
حريصا على ألا تنفلت من أصابعه،
فتورطه في الشقاوة،
وتحرق أصابعه بالنار مرة أخرى،
كبر، وتضخم بحر شقاوته في ثناياه،
استعصي عليه خنقها في داخله،
ففتح قبضتي يده على أصابع من ديناميت..."([50])
و يعني هذا أن العقدة الممتدة هي تلك العقدة التي تهيمن على النص القصصي كله. وبتعبير آخر، حينما تتحول القصة كلها إلى عقدة من البداية حتى النهاية.

4- أنواع النهايات :

تختتم القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية بنهايات متعددة ومتنوعة، ويمكن الحديث عن النهايات بالشكل التالي :

أ‌- النهاية السردية :

من الطبيعي أن تكون نهاية القصة القصيرة جدا نهاية سردية، ما دامت بدايتها سردية، والأصل في القصص أن تكون محكية وسردية ومن الأمثلة على النهاية السردية قصة (عرس):
"أسابيع مضت، ولا شيء في جدول الأعمال عدا الأناشيد والأهازيج...
أضحت مدرستنا كما العروس ستزف قريبا إلى عريسها...اليافطات والرايات في كل مكان ....يد الترميم والتطهير ....والتلوين سرت على آخر بقعة فيها...
في أجمل الحلل مضينا لإستقبال العريس ... اصطففنا أمام بوابة المدرسة خلف معلمينا ومديرنا نهلل ونطبل ....كلما اقترب الموكب بصخبه، خفقت قلوبنا فرحا، واحتدت حناجرنا بالأناشيد، وسخنت الأيادي المعطرة لتستعد للتبرك ببركة العريس.
مضى الموكب من الشارع كالبرق الخاطف المصحوب بالرعد القاصف أمطر المدير والمعلمين بالغبار المتطاير...فغضبوا ودفعوا "بالقطعان" إلى الحظائر، وهم يعضون أيديهم المعطرة التي لم تلامس يد عامل مدينتنا النائمة..."([51])
يلاحظ أن قفلة هذه القصة القصيرة جدا عبارة عن أحداث سردية قائمة على تتابع الأفعال وتراكبها السردي.

ب‌- النهاية الفضائية :

تتنوع النهاية والخاتمة في قصص الكاتب صياغة وأسلبة وتخطيبا وتسريدا فقد تكون نهاية ظرفية زمانية أو مكانية كما في قصة (لا تعرف الغضب).
"عندما تأتي الشمس لتلم أشعتها وتلبسها زي الوقار، يكون جسدها الأخضر البديع لوحة جماعية... استوعبت كل اللوان والأدران رئتاها تكدستا بأدخنة الشواء ظلت طوال النهار تضبب فضاءها ...
في الصباح تتعطر بعطور الربيع، تحضن إليها قرص الشمس، تسرب أشعتها بين فرجات أصابعها الخضراء إلى وفود حجاجها بذات حنيتها المعهودة..."([52])
يتبين لنا أن قفل هذه القصة القصيرة جدا فضائي ويتبين ذلك في مؤشره الزماني الطبيعي (الصباح، الربيع).

ج- النهاية الشخوصية :

تنتهي بعض القصص القصيرة جدا عند سميةالبوغافرية بالتركيز على الشخصية تعريفا أوتنكيرا أو تبئيرا كما في قصة (الرجال قوامون على ...).
"الخاطب : تعلمين حبيبتي أن اليد الواحدة لا تصفق ...أنصحك ألا تفرطي في مهنتك...
المخطوبة مسبلة الجفون تكتفي بهز رأسها المطأطأ بالإيجاب .
الخاطب: راتبك وراتبي من اليوم سيجمع في رصيد واحد باسمي، وسأوثق لك هذا في ....
المخطوبة ترفع رأسها تقاطعه بصوت خافت: مالي هو مالك .
الخاطب: سنؤجل الخلفة حتى نفرش العش بالريش الأنعم.
المخطوبة تحمر وجنتاها وتبتسم خجلة وهي تنكمش على نفسها ...
الخاطب: أنا رجل البيت وكل شيء ينبغي أن يسير فيه وفق رضاي .
المخطوبة تسحب بسمتها
الخاطب: يمرر يده على لحيته الكثة السوداء يستحضر حكمته ويلتهم صدر عروسه الناهض بعينيه المتقدتين هياما وأضاف يقنعها :
تعلمين حبيبتي أن الرجال قوامون على النــ ؟؟؟
تنتفض المخطوبة وتقلب المائدة وما عليها على وجه خاطبها..."([53])
تنتهي هذه القصة القصيرة جدا بنهاية شخوصية، يتم فيها تبئير الشخصية المحورية بواسطة ضمير الغائب الذي يحيل على المخطوبة الثائرة والمنتفضة على الرجل الملتحي مقاما وسياقا.

خ‌- النهاية الوصفية:

تنتهي بعض قصص سمية البوغافرية بنهايات وصفية قائمة على ذكر النعوت والأوصاف والأحوال والتشبيهات لتبيان أحوال الموصوف، كما في قصة (جنس بين بين ) التي تتهكم فيها من تخنث الجيل المعاصر:
"يذوب طربا وعشقا في الموسيقى الغربية الصاخبة.
تجري مقاطع الأغاني على لسانه كما الماء وهو لا يفقه منها حرفا...
حينما يستمع إلى موسيقاه يهتز جذعه من حين لآخر ، وهو في جلبابه أو بنطاله العادي.أما ابناه اللذان تسري هذه الموسيقى الصاخبة في دمائهما، فيصيران تحت إيقاعها، أشجارا تزلزلها الأعاصير... ضفائرهما تطير في الهواء ... سراويلهما الغريبة تجرجر وتكنس الأرض، وتعري المؤخرة... لساناهما يلفظان مع حركاتهما العجيبة كلاما يندى له الجبين وهما لا يفقهان منه شيئا ...
وبينما يشبح جدهما وجهه ناقما ساخطا على الجنس الممسوخ ،كلما رمق ظلي حفيديه، كان زملاؤهما ورفاقهما في الدرب تشرئب أعناقهم إلى بزوغ طلعة النجمين..."([54])
و هكذا ينتهي هذا القفل القصصي بذكر مواصفات الخنثى بإيراد الصفة والنعت وتشغيل صورة التشبيه والتمثيل لتجسيد الحال والمال.

هـ - النهاية التأملية :

ترتكن بعض قصص سمية البوغافرية إلى التأمل والتخمين والتفكير الذهني، كما يبدو ذلك جليا في قصة (خطأ الكبير) التي تعبر عن جسامة خطأ الكبار مقارنة بخطأ الصغار :
"سقط الكوب من يده فتهشم...
نهره أبوه بعصبية: احترس يا ولد ....أخطاؤك تجاوزت الحد المقبول ...
ستقودك لا محالة إلى الهلاك ....
ألقى إبنه نظرة معبرة على ساق أبيه المعلقة وقال له: اطمئن يا أبي ليست أخطاء الصغار من تقود إلى الهلاك...
وخرج تاركا أباه يخمن في كلام ابنه، وفي خطئه الذي غيبه عن وعيه شهرا وكاد يودي بحياته."([55])
ويعني هذا أن النهاية التأملية هي التي تقوم التأمل والحدس والتفكير والتخمين الذهني وتحمل في طياتها بعدا فلسفيا ومعرفيا وتعليميا.

و- النهاية التقريرية :

تنتهي كثير من القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية بجمل تقريرية خبرية، تقوم على التعيين والحرفية المباشرة والتأكيد، كما يبدو ذلك جليا في قصة (الغزال) التي تشير إلى ضرورة الإستعداد لمواجهة العدو في كل حين:
"سئل الغزال: لماذا تحك قرنيك الجميلين مع الصخر؟
أشار بعينيه إلى ظل ينتقل متخفيا خلف جذوع الأشجار وقال:
إني أبريهما لأرسم بهما حدود بسالتي في جسد الغدار ..."([56])
ويعني هذا أن النهاية التقريرية هي التي ترد في شكل تقريرات خبرية وأحكام إثباتية، تخلو من الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية.

ز- النهاية التشكيلية :

لا تقتصر الخاصية التشكيلية على بدايات القصة القصيرة جدا عند سمية البوغافرية فحسب، بل قد ترد في نهايتها أيضا إيحاءا وبروزا، كما يتضح ذلك جليا في قصة (الربيع) التي تعبر عن الإنبعاث والتجديد :
"لا زالت الأعناق إليه مشرئبة،
العيون إليه شاخصة،
ولا زال يخفق بجناحيه،
يجابه كتل الضباب والأدخنة،
يقفز على برك الدم،
يلتمس الطريق إلى حدائقه ليلونها بألوان ريشه ... ([57])
يلاحظ أن قفل هذه القصة القصيرة جدا يرد في شكل خاتمة تشكيلية تحيل على عالم الفن و الرسم والتلوين.

ج - النهاية الإنشائية :

تنتهي كثير من قصص سمية البوغافرية بنهاية إنشائية قائمة على الإستفهام، أو الأمر، أو التمني، أو النداء، أو القسم، أو التعجب، أو النهي، أو النفي، أو القصر .....كما في قصة (بكاء) التي تعبر عن فجائعية الحياة الإنسان المعاصر كبيرا وصغيرا:
"بكيت من إنقطاع الخبز في بيتي،
وبكت أمك من إنقطاع الأنترنت،
فمم بكاؤك يا حفيدتي ؟"([58])
وهكذا، تختم الكاتبة قصتها بقفل إنشائي قائم على الإستفهام الطلبي الدال على الحيرة والضياع والتيه.
ط- النهاية المأساوية :
تنتهي بعص القصص القصيرة جدا عند سمية البوغافرية بنهايات حزينة و مأساوية حسب تجربة الشخصية داخل القصة المعطاة، كما في قصة (بكاء) التي تصور انكسار البيئة في عالمنا المحبط هذا:
"تبكي بحرقة،
السماء تمطر بغزارة ،
سألوها عن سبب بكائها،
فلم تجب،
واكتفت بالإشارة إلى وردة مدهوسة ،
تجرفها مياه الأمطار،
كانت قبل قليل في عرشها ،
تغازل الشمس وقوس قزح ." ([59])
ينتهي هذا القفل القصصي بنهاية مأساوية فجائعية تدل على وضعية الإضطراب والإساءة داخل نسق الحبكة السردية.
ي- النهاية المتطابقة :
تشغل سمية البوغافرية النهاية النهاية المتطابقة القائمة على التضاد والطباق، كما في قصة (انطفاء) التي تعبر عن صراع الأفكاروالمصالح الشخصية، وغياب الحقيقة المطلقة.
"دخل مجمعهم، وهو مدجج برزمة من الشموع ورزمة كبيرة من من المشاريع أربكه الظلام وكثرة اللغو والشد والجذب.
كل واحد منهم يدعي أنه يمسك الحقائق المطلقة،
وأن في مداره وحده تدور الشمس والكواكب ،
والآخر من نفحاتها محروم،
فخرج ولكن ليس كما دخل .
تستند النهاية المتطابقة إلى توظيف محسن الطباق بديعيا وتدليلا وإحالة لتبيان الصراع الجدلي بين الذوات.

الخاتمة :

من خلال دراستنا لموضوع جماليات البناء الفني في القصة القصيرة جدا توصلنا إلى مجموعة من الملاحظات منها:
القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد يعتمد على اللغة المكتنزة التي تخلو من الحشو والثرثرة، وأنه في نماذجه الجيدة يؤكد قدرته على أن يكون عالما مصغرا لحياتنا، وأن فضاءه يتنوع بين القرية والمدينة، وشخوصه تتنوع، وأنه يقدم نماذج مترعة بالجمال إذ كتبت نصوصه القصيرة بلغة قادرة على التعبير والإيحاء .
فالقصة القصيرة جدا هي هي الأنسب لأمة لا أقول تعيش في عصر السرعة، ولكن لأمة مصابة بكسل القراءة، حتى لا أقول لا تقرأ وأن في القصة القصيرة جدا الكثير من خلاصة الصدق والحقيقة، وأن الإنسان سيكتشف لا محالة في الأخير وهو بصدد مغادرة العالم أن حياته لم تكن سوى قصة قصيرة جدا .
والحمد لله الذي أعاننا على إتمام ما كلفنا به من عمل، ونتمنى من الله أن ينفعنا به وأن ينال استحسان من يطلع عليه، كما نرجو إرشادنا إلى ما حدث فيه من نقص أو تقصير، ونسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن سار على سبيله واتبع سنته إلى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم يقول الله تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم".

الهوامش:

([2])د.هيفاءالسنعوسي:ضجيج، تقديم مصطفى محمود، كتاب اليوم، العدد:468، دار أخبار اليوم، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى لسنة 2004م، ،ص41.
([3])د.هيفاءالسنعوسي : إنهم يرتدون الأقنعة وقصص أخرى، مكتبة سلمى الثقافية، دارأبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، سنة 2007م ، ص77.
([4])د.المرجع نفسه.
([5])د.هيفاءالسنعوسي : إنهم يرتدون الأقنعة ، ص 31، 32.
([6])د.هيفاءالسنعوسي : شهرزاد، ص49.
([7])د.هيفاءالسنعوسي : إنهم يرتدون الأقنعة، ص79.
([8])د.جميل حمداوي: القصة القصيرة جدا بين التنظير والتطبيق، رباط نيت، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، سنة 2013م، ص:298،299.
([9])د.هيفاءالسنعوسي : إنهم يرتدون الأقنعة وقصص أخرى ،ص77.
([10])نقاد وكتاب : القصة القصيرة جدا هي سرد المستقبل، الشرق الأوسط، الأحد 18 شوال 1437ه 24 يوليو 2016م 14/03/2018 20:45.
([11])المرجع السابق.
([12])المرجع السابق.
([13])المرجع نفسه.
([14])المرجع السابق.
([15])المرجع السابق.
([16])المرجع السابق.
([17])المرجع نفسه.
([18])محمد نبيل : كتاب وآراء في سؤال الجماليات www.hespress.com 23-04-2018.
([19])المرجع نفسه.
([20])ابن منظور ، لسان العرب ، دار صادر بيروت ، ط1، مج14، د ت، ص286.
([21])ابن رشيق القيرواني، العمدة في صناعة الشعر ونقده ،تح الدكتور النبوي عبد الواحد شعلان، مكتبة الخانجي ، القاهرة ،ط2،ج2، 1420 هـ، س 2000م، ص257.
([22])alnoor.se/author.asp id=62224
([23])سمية البوغافرية:أقواس،التكوين للطباعة والنشر،دمشق سورية،ط،2001م، ص29.
([24])المرجع السابق ،ص13.
([25])المرجع السابق، ص22.
([26])المرجع السابق، ص22.
([27])المرجع نفسه، ص88.
([28])المرجع السابق،ص96.
([29])المرجع نفسه ص34.
([30])المرجع السابق،ص96.
([31])المرجع السابق،ص36.
([32])المرجع نفسه ص 27.
([33])المرجع السابق،ص35.
([34])المرجع السابق ص26.
([35])المرجع السابق، ص17.
([36])المرجع نفسه، ص75.
([37])جمال الدين الخضيري: فقاقيع،ص5.
([38])المرجع السابق،ص91.
([39])المرجع نفسه، ص98.
([40])المرجع السابق،ص: 87،86.
([41])المرجع السابق،ص 82.
([42])المرجع نفسه، ص 81.
([43])المرجع السابق،ص:5.
([44])المرجع السابق ص61.
([45])المرجع نفسه ،ص12.
([46])المرجع السابق ص 95.
([47])المرجع نفسه ،ص5.
([48])المرجع السابق،ص6.
([49])المرجع السابق،ص7.
([50])المرجع السابق، ص98.
([51])المرجع نفسه، ص89.
([52])المرجع السابق،ص98.
([53])المرجع السابق،ص85.
([54])المرجع نفسه، ص29.
([55])المرجع السابق، ص30
([56])المرجع نفسه، ص 28.
([57])المرجع السابق، ص 61.
([58])المرجع نفسه، ص 6.
([59])المرجع السابق، ص11.

قائمة المصادر والمراجع:

قائمة المصادر:

1) ابن رشيق القيرواني، العمدة في صناعة الشعر ونقده، تح الدكتور النبوي عبد الواحد شعلان، مكتبة الخانجي ، القاهرة ،ط2،ج2، 1420 هـ، س 2000م.
2) ابن منظور ، لسان العرب ، دار صادر بيروت ، ط1، مج14، د ت.
قائمة المراجع:
1) جمال الدين الخضيري:فقاقيع.
2) جميل حمداوي: القصة القصيرة جدا بين التنظير والتطبيق، رباط نيت، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، سنة 2013م، ص:298،299.
3) سمية البوغافرية:أقواس،التكوين للطباعة والنشر،دمشق سورية،ط،2001م.
4) محمد نبيل : كتاب وآراء في سؤال الجماليات www.hespress.com 23-04-2018.
5) نقاد وكتاب : القصة القصيرة جدا هي سرد المستقبل، الشرق الأوسط، الأحد 18 شوال 1437ه 24 يوليو 2016م 14/03/2018 20:45.
6) هيفاءالسنعوسي : إنهم يرتدون الأقنعة وقصص أخرى، مكتبة سلمى الثقافية، دارأبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، سنة 2007م.
7) هيفاءالسنعوسي : شهرزاد
8) هيفاءالسنعوسي:ضجيج، تقديم مصطفى محمود، كتاب اليوم، العدد:468، دار أخبار اليوم، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى لسنة 2004م.
المواقع الإلكترونية:
1. alnoor.se/author.asp id=62224
نشر على جوجل بلس

معلومان عن Unknown

موقع مكتبة جيقا – GigaLibrary: هو موقع يعنى بشؤون الطلبة الجامعيين وطلبة الدراسات العليا والباحثين في شتى المجالات العلمية والأدبية والعلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها، نساهم في إثراء مجال البحث العلمي في الجزائر والوطن العربي، كما ننشر آخر الأخبار والمستجدات في هذا المجال، نحاول نشر مواضيع جديدة، وتوفير المواد للباحثين (أطروحات، كتب، مقالات، بحوث جامعية، وغيرها).

0 التعليقات:

إرسال تعليق